First time here? Checkout the FAQ!
x

الملاحظات

في معنى العمل والجوهر الحقيقيّ له: لماذا يعمل الإنسان؟

في تصنيف مدونين طليق
بواسطة طالب محترف (3.8ألف نقاط)  
+3 تصويتات
164 مشاهدات

هل يمكن للمرء أن يتخيل الحياة من دون عمل؟ حياةٌ تقوم على حلقة مغلقة من الأكل والشرب والرفاهية؟ قد يبدو في الأمر شيء من مستوى مثاليّ يسعى الجميع له هروبًا من الشقاء، لكن قد يكون فيه كذلك انطباق تامّ مع دائرة الحياة الحيوانية: الحيوان بدوره لا يسعى لشيء سوى لإشباع حاجاته البيولوجية بغية البقاء. فما الذي يميّز الكائن العاقل إذًا؟ وإذا كان العمل ارتقاء من درجة الحيوانية إلى درجة الإنسانيّة، ففيم يكمن الجوهر الحقيقيّ له؟

ما قبل ظهور العمل

لقد أخذ معنى العمل قوالب كثيرة في التاريخ البشريّ، وتطور بمرور الزمن واختلاف الحضارات وظهور تيارات فلسفية وفكرية كثيرة ساهمت كلّ واحدة منها في صياغة الجوهر الحقيقيّ لهذا الفعل كلّ وفق مبادئها ورؤيتها الخاصة. ولغرض فهم ذلك، نحاول العودة معًا إلى نقطة البداية: إلى الإنسان الأول أو “إنسان ما قبل التاريخ” إذا جاز التعبير والذي اقتصرت نشاطاته الإنسانية على الصيد، وجني الثمار، والعيش في الكهوف من أجل البقاء

لم يكن العمل يمثل لهذا الأخير شيئًا سوى وسيلة لاستمرار الوجود، ولم يكن لديه هذا التصور الذي في أذهاننا عن العمل بالمعنى الحديث، على الأقل بالمعنى الذي يدرجه قاموس أكسفورد – Oxford على أنه نشاط يتضمّن جهدًا فكريًّا أو جسديًّا يتم القيام به للوصول إلى نتيجة أو تحقيق غاية في إطار مجتمعيّ

إنسان ما قبل التاريخ كانت مساراته واضحة: أيّ نشاط يقوم به فهو لضمان استمرار العيش: أنا أفعل، إذًا أنا موجود، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ. لم تكن له رؤية محدّدة عن المعاني، وجوهر الحياة، والمغزى من الوجود، والعلاقات الانسانية والتنظيم المجتمعي وغير ذلك. فكانت حياته في مجملها لا تتعدّى درجة إشباع الحاجات البيولوجية، يصارع من أجل ذلك الطبيعة تارةً، ويستفيد منها في غالب الأحيان

كيف تتمّ هذه الاستفادة؟ هنا مربط الفرس: لقد كان يأخذ ما يسدّ حاجاته مباشرةً من الطبيعة، بشكلها الخام، دون ترويض أو تحوير أو تغيير أو إضافة. يأكل اللحم نيئًا، ويتغطى بأوراق الشجر، ويعيش في المغارات الطبيعية. هل يضيف لمسته الخاصة؟ لم يرتقِ فعلًا إلى تلك المرحلة، ليس بعد

العمل وصناعة الحضارة

بمرور الزمن، انتقل الإنسان من مرحلة الصيد وجمع ما تمنحه له الطبيعة من خيرات وثمار إلى مرحلة الزراعة والصناعة؛ أي من التلقي المحض إلى المساهمة في الصنع. فساهم هذا الانتقال من الإنسان البدائيّ الذي لم يكن يشغله شيء غير الأكل والنوم والصيد والجنس، إلى إنسان يبني الأكواخ، ويزرع القمح، ويصنع أدوات لذلك باستخدام عظام الحيوانات، ثمّ الحديد فيما بعد، وينسج ملابس بالاستعانة بخيوط دودة القز، وغير ذلك، ساهم في تطور مفهوم العمل

هو يُخضع الطبيعة إذًا إلى سيطرته، ويضيف لعناصرها لمسته الخاصة: هناك تغيير، هناك ترويض، وبالتالي هناك عمل

العمل هو مُواجهة الإنسان للطبيعة. – كارل ماركس

وينتقل من مرحلة الترحال من مكان إلى آخر، إلى مرحلة الاستقرار، في الأكواخ والبيوت أو عند الأنهار، إلى فعل الحضارة، التي تعاكس في جوهرها فعل البداوة أين يسود نظام الترحال وتغيب العلاقات الاجتماعية. الإنسان هنا يطوّع كلّ ما في طريقه من عناصر طبيعية من أجل العمران وبناء المجتمع الذي لا يتجزّأ عن فعل صنع الحضارة حسب ابن خلدون

كما توجد تبعًا لذلك نظرية في علم الاجتماع الحضري مفادها بأنّ “كلّ شيءٍ نيء ينتمي للطبيعة، وكلّ شيء مطبوخ ينتمي للثقافة“. الإنسان بدأ مع الوقت في طبخ المنتجات الطبيعية، أي إعادة هيكلتها، فبدأ بالموازاة مع ذلك في تشكيل عناصر الثقافة. الكيمونو اليابانيّ مثلًا لا يشبه التنورة الاسكتلندية رغم حقيقة صنعهما من نفس المادة الأولية الموجودة في الطبيعة، الأمر ذاته ينطبق على البيتزا الإيطالية، والكسكسي المغاربيّ. حضارة بلاد الرافدين كمثال آخر كانت قائمةً على الزراعة، الحضارة المصرية القديمة قامت على الصناعة وهكذا دواليك؛ هذه العناصر المشكّلة للثقافة ساهمت هي الأخرى في صنع حضارة ما وتعزيز ما يميّزها عن غيرها. انتقال الإنسان للعمل هو إذًا انتقال حتميّ لصناعة الحضارة: وهذا هو الجوهر الأول له

العمل وصناعة الفكر

مع قيام الحضارة اليونانية، وانتشار فعل الفلسفة بشكل استثنائيّ ولافت للنظر، بدأ مفهوم العمل يتوسّع أكثر فأكثر، حتى صارت الفروقات الطبقية تقوم على أساسه. اقتصر بذل المجهود على العبيد، واستثني المواطنون من ذلك، فصارت الأعمال البدنية مرتبطةً بفئة اجتماعية أقلّ قيمة

العمل الجسديّ في نظر أرسطو على سبيل المثال، لا يعدو عن كونه إحدى الملهيات التي تشغل الإنسان الشريف عن التفكير، والاهتمام بالسياسة وحيازة الفضيلة. وهو أحد الأسباب المؤدية إلى ضرورة وجود فوارق طبقية في المجتمع، تعينها الطبيعة تبعًا للعوامل الوراثية والاجتماعية فتحدّد بذلك من سيكون العبد، ومن سيكون المواطن الحرّ. أرسطو يرى بأنّ العمل اليدويّ إكراه طبيعيّ، وبأنّ الإنسان وجد لغاية أسمى وأكثر نبلًا

هذه المرحلة من مراحل تطور مفهوم العمل، ورغم امتدادها للحضارة الرومانية فيما بعد، وتعزيزها للفروقات الطبقية المهينة، واستمرار وجود فئة العبيد في المجتمعات، إلّا أنّها ساهمت في ظهور أول تصنيف أو تقسيم إنساني للعمل، ونفت فكرة أنّ العمل متعلق بالجهد الجسديّ فقط، فهو نوعان: عمل بدنيّ، وعمل فكريّ. الانشغال بالسياسة، وممارسة التدريس، والتفكير في الظواهر المحيطة، والتأمل في القيم وصياغة النظريات، لا تخرج عن حيّزه كذلك

الجوهر الثاني للعمل يخبرنا بأنّ الحضارات لا يمكن أن تقوم دون مرجعية فكرية، أو نظرية، أو رؤية محكمة مهما كان الفعل الجسديّ فيها متطورًا، لأنّ هذا الفعل الجسديّ هدفه أولًا وأخيرًا إشباع الحاجات البيولوجية، فماذا عن الحاجات النفسية والفكرية، والروحية؟ أثينا مثالٌ على ذلك، ففي ربوعها ازدهرت الكثير من الأفكار الداعية إلى الفضيلة والأخلاق، ونبذ الرذائل

كيف يُحرّر العمل المرء؟ وكيف يستعبده؟

في جدلية “السيّد والعبد” التي صاغها الفيلسوف الألمانيّ هيجل، يرى هذا الأخير بأنّ العبد في الحقيقة سيّد لسيّده، لأنّه بعمله وإحاطته بأمور لا يعرفها غيره قد جعل من وجوده معترفًا به أولًا، ولا غنى عنه ثانيًا. العبد المستعدّ للتضحية بحياته والمواجه للموت في إطار عمله يكون قد حقّق بذلك مسمّى الحرية حتى لو كان في الحقيقة مملوكًا، فقد تحرّر من أسر الطبيعة بمواجهتها وتطويعها، وتحرّر من أسر سيّده بإحاطته بأمور أكبر منه. جوهر آخر للعمل على غرار تعزيز العلاقات الاجتماعية هو تحقيق الحرية

لقد غيرت هذه الجدلية في القرن التاسع عشر من الفكرة السائدة باقتصار العمل الجسديّ على العبيد في أوربا. كما ساهمت حركات الإصلاح الدينيّ في ذلك، والنشاطات الحقوقية، ومع قيام الثورة الصناعية بدأ مفهوم العمل يأخذ منحى آخر مغايرًا، ويكتسب طابع الإلزامية على مختلف أطياف المجتمع

وعودةً لفكرة الحرية من جديد، فقد أصبحت هناك أعمال تخضع المرء للعبودية بمفهومها الشامل حتى لو كان حرًّا، وتتحكم في ذلك نظرة المجتمع إلى صاحبها. فعامل النظافة مثلًا، ومهما ادّعى الآخرون تقديرهم لعمله، إلّا أنّهم يصنفون هذا العمل كدرجة ثانية. الطبيب أفضل منه حتى لو تسبب هذا الأخير في موت أبرياء، والمعلم خير منه حتى لو ارتكب جريمةً في حقّ عقول الصغار المساكين. لماذا؟ لأنّ النظرة المجتمعية تصنف الآخرين بناءً على أعمالهم. فكان لزامًا أن يحقّق العمل ذات المرء على غرار تحقيقه لنفع مجتمعيّ، حتى يضمن حرية صاحبه

تذكرون مسرحية الزواريب؟ لقد أشارت إلى نقطة إثبات الذات عن طريق العمل في دور عامل النظافة الذي أدّاه ببراعة الفنان رفيق علي أحمد، والذي استطاع أن يثبت نفسه ويحقق حريته بكونه أشجع فتيان الحيّ، وأكثرهم حكمةً وذكاء، رغم حقيقة نظرة الآخرين لعمله، حتى أطلق مقولته الشهيرة

أرني زبالتك، أقول لك من أنت. – مسرحية الزواريب

هي صياغة جديدة للمفاهيم، تنافي الأعراف السّائدة، ولكنها لا تتعارض مع الحقيقة، وتنجح في تحقيق الحرية رغم نوع العمل

بالتوفيق، وأراك في القمة

من فضلك سجل دخولك أو قم بتسجيل حساب للإجابة على هذا السؤال

2 إجابة

بواسطة طالب عالمي (7.3ألف نقاط)  
+1 تصويت
السلام عليكم اخي

احسنت اخي منشور رائع

شكرا جزيلا على مشاركتنا هذه معلومات

بالتوفيق لك وللجميع ✌
بواسطة طالب محترف (3.8ألف نقاط)  
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
شكراً جزيلاً لك
و بالتوفيق لك أيضاً إن شاء الله
بواسطة طالب عالمي (7.7ألف نقاط)  
+1 تصويت
موضوع رائع وأعجبني جداً

جزاك الله خيراً

استمر أخي علي
بواسطة طالب محترف (3.8ألف نقاط)  
شكراً جزيلاً لك
و جزاكِ الله أيضاً خيراً
بإذن الله
196 Online Users
0 Guest 196 Member
Today Visits : 26607
Yesterday Visits : 55702
Total Visits : 44252429

25.4ألف أسئلة

124ألف إجابة

154ألف تعليقات

29.5ألف مستخدم

مرحبًا بك إلى Taleek Discussion، مناقشات طليق - حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين. تذكر اننا هنا جميعا لمساعدة بعضنا البعض فيرجى الالتزام بقوانين وارشادات المنتدى حتى نبقي عائلة طليق نظيفة وانتاجية - لا تنسى التصويت للاجابات الصحيحة والتصويت بالسلب للاجابات المضللة او المخالفة
add
لعبة السجن
...