السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
لا شك أن معظمنا يعرف مقدار المعاناة و الدراما التي تحدث في حياة الأشخاص المصابين باضطرابات فقدان الذاكرة و أبسط مثال على ذلك مرضى " الزهايمر " فمن خلال ما يقدم من أعمال سينمائية أو أدبية و التي تتناول واقع هؤلاء الأشخاص أو حتى من خلال ما نراه يحدث مع شخص مقرب منا أو نعرفه فنحن نرى محاولاتهم المتكررة و مقدار المعاناة التي يعانون منها في محاولة لتذكر أحداث مهمة بالنسبة لهم.
و لكن هل تساءلت يوما أو خطر في بالك احتمال وجود حالة تصيب المرء تجعله قادرا على تذكر الأحداث و المواقف التي مر بها؟ احتمال وجود مرض يحرمك من النسيان؟
في الواقع... نعم يوجد مرض كهذا، و هو ما يعاني منه حوالي أقل من 60 شخص يعيشون بيننا و يدعى اضطراب " فرط التذكر " أو " Hyperthymesia "
فرط التذكر ( Hyperthymesia )
هي حالة تؤدي إلى جعل الشخص قادرا على تذكر أدق التفاصيل و التجارب الشخصية السابقة بتفاصيل و ذكريات حية.
انه مرض نادر جدا حيث تم رصد حوالي 60 شخص في العالم يعانون من عدم النسيان.
هناك سمتان بارزتان لدى مرضى فرط التذكر:_
قضاء الشخص الكثير من الوقت في التفكير فيما مضى ، و إظهار قدرة استثنائية في استرجاع أحداث الماضي و ذكريات من مرحلة الطفولة.
أول حالة تم رصدها كانت عام ( 2006 ) من قبل مجموعة من الباحثين من جامعة كاليفورنيا تدعى ( AJ ) و عرفت فيما بعد باسم ( Jill Price )
كلمة Hyperthymesia مشتقة من اليونانية و تعني:_
Hyper >>> excessive
thymesia >>> remembering
لتصبح معا ( excessive remembering)
و يوجد اسم آخر للمرض و هو
Highly superior autobiography memory
الذاكرة الذاتية بالغة القوة، اختصارا ( HSAM )
الأسباب و الأعراض:_
يمتلك الأشخاص المصابين بهذا المرض ذاكرة بصرية استثنائية قادرة على استرجاع الأحداث و الذكريات بكل سهولة.
لكن يجب الإنتباه إلى الفرق بين أولئك المصابين باضطراب فرط التذكر و بين أولئك الذين يملكون " ذاكرة استثنائية "
أصحاب الذاكرة الأستثناية هم في العادة يستخدمون استراتيجيات و أساليب تساعدهم على تذكر و حفظ سلاسل من المعلومات، و لعل أشهر هذه التقنيات المعروفة هي ( Mnemonics ) ( استذكار )
و هي طريقة تعليمية لتثبيت المعلومات و لتسهيل تذكرها.
و يهدف فن الإستذكار إلى تحويل المعلومات إلى صيغة يمكن للعقل الإحتفاظ بها بشكل أفضل من لو كانت بصيغتها الأصلية.
لذا مرضى فرط التذكر لا يحتاجون إلى تقنيات لتثبيت المعلومات في ذاكرتهم لأن هذه العملية تحدث معهم بشكل تلقائي و دون وعي منهم.
رغم التطور العلمي إلا أنه حتى لم يتمكن العلماء من معرفة سبب محدد للإصابة بهذا المرض، و لكن البعض يقول أنها تحدث بسبب عوامل وراثية أو نفسية أو حتى عوامل جينية، لأنه و عند تصوير دماغ شخص مصاب و مقارنته مع دماغ سليم اتضح وجود نشاط كبير في مناطق متعلقة بالذاكرة في أدمغة الأشخاص المصابين بهذا الاضطراب.
النسيان نعمة:_
لا شك أنه بعد معرفتكم بوجود مرض كهذا قد يتمنى بعضكم لو أنه مصاب به حتى يتمكن من تذكر كل الأشياء التي يدرسها و خصوصا إذا كان طالبا (:
و لكن امتلاكنا القدرة على نسيان مواقف محرجة أو ذكريات مؤلمة من الماضي يعد نعمة كبيرة نعيش فيها.
و لكن المصابين بمرض " فرط التذكر " أو حتى المصابين باضطرابات مابعد الصدمة لا يملكون هذه الرفاهية
" رفاهية النسيان " فهم يتمنون لو أن بامكانهم حذف اجزاء من ذاكرتهم و ينسون بعض الأحداث و المواقف المسيطرة على حياتهم، و لكن هل بامكاننا فعلا حذف اجزاء من ذاكرتنا؟
في تجربة قام بها مجموعة من العلماء على أشخاص مصابين باضطرابات فقدان الذاكرة، قاموا باختيار مجموعة من الأشخاص و جعلوهم يشاهدون فيلم أحداثه مؤثرة و تأثر الأشخاص كأي شخص عادي بالفيلم و تم تسجيل تأثرهم و حزنهم الشديد و مع الوقت نسي هؤلاء الأشخاص الفيلم و أحداثه حتى إن بعضهم نسي مشاهدته لفيلم أصلا!
و لكن الأمر الغريب الذي لوحظ هو على الرغم من أنهم قد نسوا أحداث الفيلم إلا أن مشاعر الحزن كانت لا تزال باقية و لم يعرفوا لماذا يشعرون بالحزن؟
و نفس الشئ حدث عندما كرروا التجربة على نفس الأشخاص و لكن هذه المرة تم جعلهم يشاهدون فيلما فكاهيا، و حتى بعد نسيانهم للفيلم ظلت مشاعر البهجة و السرور باقية.
و من هنا نستنتج، حتى و إن تمكنا من مسح ذكريات و أحداث من الماضي ستظل المشاعر المصاحبة لتلك الذكريات باقية معنا، و انطلق البعض إلى تفسير ذلك بفرضية تدعى " Body memory " " ذاكرة الجسد "
و هي ببساطة تقول أن الذكريات تخزن في الأعضاء ( كالكلى و القلب) بدليل أنه عند نقل إحدى هذه الأعضاء من مريض لآخر فإننا قد ننقل معها مشاعر من ماضي مريض آخر، و جاء آخرون و رفضوا هذه الفرضية و قالوا أن الذكريات تخزن في المخ على شكل وصلات عصبية، و لم يعرفوا حتى الآن لماذا ننسى بعض الذكريات و تبقى أخرى؟ و لماذا تبقى المشاعر حتى بعد أن ننسى؟
لا أحد يعرف السبب الحقيقي، و لكن حتى لو تمكنا بالفعل من مسح أجزاء معينة من ذاكرتنا و تخلصنا من بعض الذكريات.
ما هي أنواع الذكريات التي سيكون من المسموح لنا مسحها؟ هل يحق لأحدنا مسح ذكريات ماضيه مع شخص آخر و يجعله يحمل كل تلك الذكريات لوحده؟
الحديث يطول و التساؤلات عن هذا الموضوع لا تنتهي و لا شك أن أمرا كهذا من شأنه أن يطرح قضايا أخلاقية و تساؤلات فلسفية لا تنتهي.
في الختام أرجوا أن تكونوا قد استمتعتم بالموضوع و وجدتم فيه فائدة، و أتمنى أن لا أكون قد أثقلت عليكم بكثرة الحديث...
دمتم سالمين...